سورة التوبة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)}
روى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لم أتخلف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة غزا ها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا ولم يعاتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغوثين لعيرهم فالتقوا عن غير موعد كما قال الله تعالى ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس لبدر وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ثم لم أتخلف بعد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزا ها وآذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرحيل فذكر الحديث بطوله قال: فانطلقت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سر بالأمر استنار فجئت فجلست بين يديه فقال: «أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك» فقلت: يا نبي الله أمن عند الله أم من عند ك؟ قال: «بل من عند الله- ثم تلا هذه الآية- {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ}- حتى بلغ- {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} قال: وفينا أنزلت أيضا {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]» وذكر الحديث. وسيأتي بكماله من صحيح مسلم في قصة الثلاثة إن شاء الله تعالى. واختلف العلماء في هذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار على أقوال فقال ابن عباس: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه.
وقيل: توبة الله عليهم استنقاذ هم من شدة العسرة.
وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحالة الأولى.
وقال أهل المعاني: إنما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوبة لأنه لما كان سبب توبتهم ذكر معهم كقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]. قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ} أي في وقت العسرة، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها.
وقيل: ساعة العسرة أشد الساعات التي مرت بهم في تلك الغزاة. والعسرة صعوبة الامر. قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء. قال الحسن: كانت العسرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير والإهالة المنتنة وكان النفر يخرجون ما معهم- إلا التمرات- بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم.
وقال عمر رضي الله عنه وقد سئل عن ساعة العسرة: خرجنا في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا. قال: «أتحب ذلك؟» قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء ثم سكبت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
وروى أبو هريرة وأبو سعيد قالا: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك فأصاب الناس مجاعة وقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وأدهنا. فقال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افعلوا» فجاء عمر وقال: يا رسول الله إن فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزواد هم فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة. قال: «نعم» ثم دعا بنطع فبسط ثم دعا بفضل الأزواد فجعل الرجل يجئ بكف ذرة ويجيء الآخر بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير. قال أبو هريرة: فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبركة. ثم قال: «خذوا في أوعيتكم» فأخذوا في أوعيتهم حتى- والذي لا إله إلا هوما بقي في العسكر وعاء إلا ملئوه، واكل القوم حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة». خرجه مسلم في صحيحه بلفظه ومعناه، والحمد لله.
وقال ابن عرفة: سمي جيش تبوك جيش العسرة لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ندب الناس إلى الغزو في حمارة القيظ، فغلظ عليهم وعسر، وكان إبان ابتياع الثمرة. قال: وإنما ضرب المثل بجيش العسرة لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يغز قبله في عدد مثله لان أصحابه يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ويوم أحد سبعمائة ويوم خيبر ألفا وخمسمائة ويوم الفتح عشرة آلاف ويوم حنين اثني عشر ألفا وكان جيشه في غزوة تبوك ثلاثين ألفا وزيادة، وهي آخر مغازيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رجب وأقام بتبوك شعبان وأياما من رمضان وبث سراياه وصالح أقواما على الجزية.
وفي هذه الغزاة خلف عليا على المدينة فقال المنافقون: خلفه بغضا له، فخرج خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبره فقال عليه السلام: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» وبين أن قعوده بأمره عليه السلام يوازي في الأجر خروجه معه لان المدار على أمر الشارع. وإنما قيل لها: غزوة تبوك لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى قوما من أصحابه يبوكون حسي تبوك أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء، فقال: «ما زلتم تبوكونها بوكا» فسميت تلك الغزوة غزوة تبوك. الحسي بالكسر ما تنشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر عنه الرمل فتستخرجه وهو الاحتساء قاله الجوهري. قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} {قُلُوبُ} رفع بـ {تزيغ} عند سيبويه. ويضمر في {كادَ} الحديث تشبيها بكان، لان الخبر يلزمها كما يلزم كان. وإن شئت رفعتها بكاد، ويكون التقدير: من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ. وقرأ الأعمش وحمزة وحفص {يزيغ} بالياء، وزعم أبو حاتم أن من قرأ {يزيغ} بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال النحاس: والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع. حكى الفراء: رحب البلاد وأرحبت، ورحبت لغة أهل الحجاز. واختلف في معنى تزيغ، فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة.
وقال ابن عباس: تعدل- أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة.
وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به.
وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم وأمر هم به. قوله تعالى: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ} قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم. وينشد:
منك أرجو ولست أعرف ربا *** يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد في الأر *** ض على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجو *** ع وصروا على الذنوب ولجوا
لم يكن لي سواك ربي ملاذ *** فتيقنت أنني بك أنجو
وقال في حق الثلاثة: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} فقيل: معنى: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ} أي وفقهم للتوبة ليتوبوا.
وقيل: المعنى تاب عليهم، أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا.
وقيل: تاب عليهم ليثبتوا على التوبة.
وقيل: المعنى تاب عليهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم. وبالجملة فلولا ما سبق لهم في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا، دليله قوله عليه السلام: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له».


{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}
قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} قيل: عن التوبة عن مجاهد وأبي مالك.
وقال قتادة: عن غزوة تبوك. وحكي عن محمد بن زيد معنى {خُلِّفُوا} تركوا، لان معنى خلفت فلانا تركته وفارقته قاعدا عما نهضت فيه. وقرأ عكرمة بن خالد {خُلِّفُوا} أي أقاموا بعقب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي عن جعفر بن محمد أنه قرأ {خالفوا}. وقيل {خلفوا} أي أرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم بشيء. وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذر هم، وأخر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن. وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغير هما. واللفظ لمسلم قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له وأعتذر إليه فقبل منه. وهذا الحديث فيه طول، هذا آخره. والثلاثة الذين خلفوا هم: كعب بن مالك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال ابن أمية الواقفي وكلهم من الأنصار. وقد خرج البخاري ومسلم حديثهم، فقال مسلم عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنه إنما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدو هم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ- يريد بذلك الديوان- قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى وغزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز إليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت! فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غازيا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت! ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك»؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كن أبا خيثمة» فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حتى لمزه المنافقون. فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي فلما قيل لي: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائر هم إلى الله حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال: «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك»؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولين حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك». فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا! لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما اعتذر به إليه المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لك!. قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكذب نفسي. قال: ثم قلت لهم هل لقى هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم! لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه. قال: فاجتنبنا الناس، وقال: وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا! ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله! هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه: أما بعد! فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هو ان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. قال فقلت، حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء! فتياممت بها التنور فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيني فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها. قال: فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عند هم حتى يقضي الله في هذا الامر. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا ولكن لا يقربنك» فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شي! ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يدريني ماذا يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب! قال: فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج. قال: فآذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعي ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك». قال: فقلت أمن عند الله يا رسول الله أم من عندك؟ قال: «لا بل من عند الله». وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر. قال: وكنا نعرف ذلك. قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك». قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. قال وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال: فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومي هذا وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي فأنزل الله عز وجل: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ}- حتى بلغ- {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ}- حتى بلغ- {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لاحد، وقال الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} [التوبة: 96- 95]. قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ} وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له وأعتذر إليه فقبل منه. قوله تعالى: {ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ} أي بما اتسعت يقال: منزل رحب ورحيب ورحاب. و{ما} مصدرية، أي ضاقت عليهم الأرض برحبها، لأنهم كانوا مهجورين لا يعاملون ولا يكلمون.
وفي هذا دليل على هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا. قوله تعالى: {وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} أي ضاقت صدورهم بالهم والوحشة، وبما لقوه من الصحابة من الجفوة. {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجئون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه. قال أبو بكر الوراق. التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب وصاحبيه.
قوله تعالى: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فبدأ بالتوبة منه. قال أبو زيد: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله تعالى، ظننت أني أحبه فإذا هو أحبني، قال الله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وظننت أني أرضى عنه فإذا هو قد رضي عني، قال الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]. وظننت أني أذكره فإذا هو يذكرني، قال الله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}. وظننت أني أتوب فإذا هو قد تاب على، قال الله تعالى: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}.
وقيل: المعنى ثم تاب عليهم ليثبتوا على التوبة، كما قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] وقيل: أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم كما فعل بغير هم، قال عز وجل: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} هذا الامر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين. قال مطرف: سمعت مالك بن أنس يقول: قلما كان رجل صادقا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف. واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال، فقيل: هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب.
وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين، أي اتقوا مخالفة أمر الله. {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} أي مع الذين خرجوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا مع المنافقين. أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم.
وقيل: هم الأنبياء، أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة.
وقيل: هم المراد بقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}- الآية إلى قوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة: 177].
وقيل: هم الموفون بما عاهدوا، وذلك لقوله تعالى: {رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} وقيل: هم المهاجرون، لقول أبي بكر يوم السقيفة إن الله سمانا الصادقين فقال: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ} [الحشر: 8] الآية، ثم سماكم بالمفلحين فقال: {والذين تبوءوا الدار والايمان} [الحشر: 9] الآية.
وقيل: هم الذين استوت ظواهر هم وبواطنهم. قال ابن العربي: وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل، وصاحبها يقال له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم. وأما من قال: إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ويتبعه الأقل وهو معنى آية الأحزاب. وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها فإن جميع الصفات فيهم موجودة.
الثانية: حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا». والكذب على الضد من ذلك، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا». خرجه مسلم. فالكذب عار واهلة مسلوبو الشهادة، وقد رد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهادة رجل في كذبة كذبها. قال معمر: لا أدري أكذب على الله أو كذب على رسوله أو كذب على أحد من الناس. وسيل شريك بن عبد الله فقيل له: يا أبا عبد الله، رجل سمعته يكذب متعمدا أأصلي خلفه؟ قال لا. وعن ابن مسعود قال: إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم شيئا ثم لا ينجزه، أقرءوا إن شئتم {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} هل ترون في الكذب رخصة؟ وقال مالك: لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال غيره: يقبل حديثه. والصحيح أن الكاذب لا تقبل شهادته ولا خبره لما ذكرناه، فإن القبول مرتبة عظيمة وولاية شريفة لا تكون إلا لمن كملت خصاله ولا خصلة هي أشر من الكذب فهي تعزل الولايات وتبطل الشهادات.

31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38